كأن حمي إنفلونزا الخنازير قد هبطت علي مصر بين عشية وضحاها فجأة من دون كل دول العالم, فرغم أن دولا عديدة قد تلقت الصدمة الأولي من معدلات الإصابة ولم تتجاوز فيها الوفيات العشرات, وعالميا عدة مئات,' حتي نهاية الأسبوع الماضي340 ألف مصاب و4100 وفاة وفق إحصائيات الصحة العالمية', وهو ما يكاد لايذكر مقارنة بضحايا الأنفلونزا الموسمية' العادية' الذين يقتربون من نصف مليون حالة سنويا, لكن مع قرب دخول المدارس اشتعلت حمي التحذيرات من جانب وسائل الإعلام, معظمها يصب في خانة الصدمة والترويع بدلا من التوعية التي تنصح بقليل من الحذر وكثير من الهدوء حتي نفوت علي الفيروس فرصة لأن ينال منا الكثير, ولنتذكر أن دولة عربية مثل الكويت فاقتنا في عدد الإصابات, لكن عدد الحالات التي ظهرت بين الطلبة بعد انتهاء أول أسبوع دراسي لم تتجاوز4 حالات.
بداية الصدمة والترويع جاءت مع التصريحات غير السارة بأن خطة الدولة تضع في حسبانها' المدافن الجماعية'!, وانتهت بتوعد كل حاج بأنه سيأخذ التطعيم علي مسئوليته, وهو مايعني عدم مسئولية الشركة عن آية مضاعفات قد تصيب من يتعاطون اللقاح, باعتباره فرض عين علي كل حاج! ومع إعلان بعض شركات الدواء عن التوصل إلي لقاحات للفيروس الطارئ, تسارعت لغة التخويف عالميا من اللقاح القادم, وهو مايعيد إلي الأذهان ماحدث عام1976, حين تسبب لقاح أنفلونزا الخنازير في أمريكا في إصابات في الجهاز العصبي لمئات من الناس, مما يعزز المخاوف من أنه لا يوجد دليل علي ما إذا كان اللقاحات القادمة قد تسبب نفس الآثار الجانبية المدمرة, وزاد من حملة التشكيك في اللقاح, ماكشفه فريق صحفي وعلمي عن تجاوزات واضحة وموثقة,
أبرزها مانشرته صحيفة واشنطن بوست, عن قيام إحدي الشركات الكبري لإنتاج اللقاحات في فبراير2009, بإرسال لقاح فيروس الإنفلونزا الموسمي إلي18 بلدا أوروبيا و كان اللقاح ملوثا بفيروس إنفلونزا الطيورH5N1 الحي, لكن لحسن الحظ قررت الحكومة التشيكية اختبار اللقاحات علي حيوانات التجارب كخطوة روتينية, وكانت الصدمة عندما ماتت جميع الحيوانات التي أعطيت اللقاح فأدركوا أن هناك خطأ هائلا, وأسرعت الحكومة التشيكية بإخطار حكومات البلدان الأخري التي تلقت اللقاح ولحسن الحظ أدركت ذلك في اللحظة الأخيرة, وبدلا من مقاطعة الشركة ووضعها علي القائمة السوداء, كافأتها الصحة العالمية بعقد تجاري جديد لإنتاج كميات كبيرة من تطعيمات إنفلونزا الخنازير, لكن والحق يقال لم تنل هذه الشركة حتي اليوم تصريحا من الصحة العالمية علي لقاحها لأنها تنتجه في خلايا مزارع الأنسجة, كما أن مصر ـ والكلام للدكتور مصطفي أورخان المدير السابق لمركز الأنفلونزا الإقليمي التابع لمنظمة الصحة العالمية الصحة العالمية ـ لم تستورد أية لقاحات من هذه الشركة علي الإطلاق, وما ستستورده مصر من لقاح لأنفلونزا الخنازير من شركة بريطانية ألمانية, لكنها هي الأخري حتي اليوم لم تستكمل تجاربها الإكلينيكية علي اللقاح الخاص بها,
وبالتالي لم تحظ بعد بموافقة منظمة الرقابة علي الأغذية والأدويةFDA تدل علي أن الشركة أنهت جميع الاختبارات الإكلينيكية وبعد الانتهاء من تلك التجارب لاداعي لأخذ إقرار من متلقي اللقاح كما هو متبع في جميع حالات التطعيم
..
وما يثير الريبة هو تهويل المنظمة من شأن الفيروس الذي قتل قرابة4100 شخصا فقط حتي الجمعة الماضي, من بين340 ألف إصابة' تأكد وجود الفيروس أم لم يتأكد' من بين مئات الآلاف من حالات الإصابة به في العالم منذ إطلاقه من قبل مصنعيه دون التساؤل للحظة عن العوامل المصاحبة التي تسببت في مقتل أولئك الأشخاص دون غيرهم من المصابين.
نأتي إلي قضية اللقاحات المثارة محليا, إذ يقول الدكتور مصطفي أورخان أن إعطاء اللقاح للحجاج قبل استكمال الدراسات السريرية أو الإكلينيكية يعطي فرصة ذهبية لهذه الشركات لإجراء هذه الدراسات علي مئات الآلاف من الحجاج ـ كحقل تجارب ـ بدون أي مساءلة قانونية, لأن هذه التجارب لاتكتمل إلا بعد مضي6 أسابيع من إنتاج اللقاح وتجريبه علي عدد من البشر وإن زاد عن500 شخص يعد مثاليا, ولابد أن يكونوا من كل الأعمار بل والأجناس ذكورا وإناثا, وذلك لرصد نوعين من الآثار الجانبية, الأولي وتظهر خلال48 ساعة من تناوله وهي بسيطة من سخونة واحمرار في موضع الحقن وآلام في العضلات والمفاصل, وهي عادية تمر بسلام, لكن الآثار الجانبية الأكثر خطورة هي التي( قد) تظهر علي الأقل بعد6 أسابيع من تعاطي اللقاح, وتتمثل في حدوث التهابات عصبية تعرف اختصارا بـGBS أو' متلازمة جيليان باري' وقد تؤدي للشلل مثلما حدث عام1976, ونسبة حدوثها مع لقاح الأنفلونزا الموسمية' العادية' واحد في المليون, حيث يخضع لهذه التجارب الإكلينيكية متطوعين تحت الملاحظة اليومية الدقيقة.
وجدير بالذكر أن مصانع شركات إنتاج اللقاحات لم تبدأ في إنتاج لقاح إنفلونزا الخنازير إلا بعد الانتهاء من إنتاج لقاح الأنفلونزا الموسمية, وإذا افترضنا أنها انتهت من مهمتها الأولي في أغسطس, ثم بدأوا المهمة الثانية في أغسطس فلن ينتهوا قبل شهرين لأن اللقاح مضاد لسلالة واحدة, تبدأ بعدها مرحلة التجارب الإكلينيكية أو السريرية علي المتطوعين وبدورها تستغرق شهرين للوقوف علي كل الآثار الجانبية, فهذا يعني أن اللقاح لن يكون آمنا إلا مع قرب نهاية العام أو تحديدا في يناير المقبل, لأن الشركات المنتجة تكون قد أجرت كل تجاربها السريرية وحينها لن تطلب ممن يأخذون اللقاح أية إقرارات بأخذها علي مسئوليتهم, وهو ما يعزز عمليا الدعوة إلي تأجيل الحج لدي المصريين, أما الزعم بأن الحجاج سيكونون تحت الملاحظة فهو أمر يتنافي تماما مع قواعد التجارب السريرية, فضلا عن استحالة حدوثه, يبقي التأكيد علي أن من لديهم حساسية ضد البيض أو لحوم الدواجن يحظر عليهم نهائيا تناول اللقاح, لأنه يتم إنتاجه في البيض المخصب. و ردا علي ما قيل بأننا في مصر نراقب مايحدث للقاح في الخارج, ينبغي التأكيد أننا عندما نقارن الآثار الجانبية للقاح المستورد بما يحدث في الخارج يجب أن يكون لنفس الشركة المستورد منها وليس لشركة أخري, فمثلا لا يمكن مقارنته بما حدث في الصين لأن الشركة المصنعة هنا مختلفة وكل شركة مصنعة لها تجاربها الإكلينيكية الخاصة بمنتجها, علما بأننا عادة في مصر لايصرح باستخدام اللقاح المستورد أو المصنع محليا إلا بعد إجراء التجارب المعملية في معامل الرقابة بالهيئة العامة للرقابة علي الأدوية في مصر للتأكد من سلامة وفعالية اللقاح قبل طرحه في الأسواق للاستخدام وتلك التجارب لاتستغرق أقل من أسبوعين.
أما أعراض الفيروس نفسه فهي ـ كما تقول الدكتورة مايسة شرف الدين أستاذ ورئيس قسم الأمراض الصدرية بطب قصر العيني ـ بسيطة وليست خطيرة أو مميتة مثل سارس أو إنفلونزا الطيور, كما أن مضاعفاته بسيطة إلا في حالة المصابين بأمراض مزمنة كمرضي القلب والسكر والرضع ومرضي الفشل الكبدي, وتؤكد أن الوقاية هي الحل بالغذاء الصحي المتوازن الغني بفيتامينA وC مع الينسون والشمر, لكن التحذير المهم هو منع من يعانون من حساسية البيض بما فيهم الحجاج من تناول اللقاح, وعلي مرضي حساسية الصدر والسدة الرئوية إذا أصيبوا بالأعراض عليهم التوجه فورا للطبيب المعالج, وأخير تطالب وزارة الصحة بمناشدة السلطات السعودية بعدم التشدد في أخذ اللقاح إلا إذا كان آمنا, لأنه سنويا تظهر سلالات مختلفة من الأنفلونزا ولم تتخذ بشأنها مثل هذه القرارات غير المدروسة.
|