مصر موتورز مجتمع السيارات - ارشيف احداث عام 2009

بقلم د.أيمن محمد الجندى ١٣/ ٤/ ٢٠٠٩

بشكل ما أعتقد أننى أفهم جميع الأطراف: هؤلاء الذين يرفضون التوريث حتى لو ارتدى أقنعة الديمقراطية وأردية الانتخابات. يفهمون أن يكون الإرث عقارا، أرضا، مصنعا، قرية سياحية، لكن بلدا فى حجم مصر المحروسة بمساجدها العتيقة، وقبابها الحزينة، بقناة حفرتها أظافر الأجداد، بأهرامات رفعتها جماجم الأحباب.

بشوارع مغسولة بالدموع، ببيوت مسكونة بالحنين، بقصائد المنشدين، بأنفاس العارفين، بخان الخليلى والحسين، بطرح النهر، بطمى النيل، بمجاذيبها وعشاقها. أهكذا؟، يرث الجمل بما حمل؟، والجمل حمولته ثقيلة، بعدد أحزان السنين، بكدح الناس الطيبين، هذا هو الشىء الذى يتجاوز اللياقة ويفوق المعقول.

يقولون: كيف يحكم جمال مبارك الرجل العادى، هو الذى لم يمارس حياة الرجل العادى؟ لم يحجز مقعدا فى قطار، ولا استوقف سيارة أجرة، ولا ساوم ميكانيكى سيارات، ولا انتظم فى طابور بنك، ولا حجز شقة فى مصيف، ناهيك عن شراء الخبز، وطابور البطالة، وركوب الميكروباص؟

لكنى فى الوقت نفسه أفهم طموح السيد جمال مبارك أن يحقق ذاته، مستقلا عن نفوذ والده، بعد أن سئم العز والقصور الملكية والقامات المنحنية. شىء لن نفهمه نحن، أن تعتاد الرفاهية حتى تسأمها: المآدب الباذخة، والحدائق المنبسطة، والحياة الميسرة. ترف يسمم النفس ويقلق النوم ويفسد النعمة.

وأفهم أيضا هؤلاء الذين يعتقدون- مخلصين- أن توريث الحكم مصلحة للبلد، لأن من استدعى العفريت يقدر أن يصرفه، وبحكم أنه شارك فى وضع سياسات البلد، فإن استمراره فى الحكم يعد تدعيمًا لعمارة متهالكة، لا يملك أى حاكم جديد أمام تهالكها إلا الهدم وإعادة البناء، أو على الأقل تنكيسها، بكل ما يترتب على ذلك من طرد سكانها (الذين هم نحن) فى العراء.

هكذا، تجدنى متفهما للجميع. وإثباتا لحسن النوايا، أتقدم بهذا العرض السخى: أنا مستعد لانتخاب السيد جمال مبارك، بل الترويج له، إذا وافق أن يأتى متخفيا، بدون حراسات أو استعدادات ملفقة، إلى المستشفى المجانى حيث أعمل، ليرى على الطبيعة رعاياه القادمين الذى يريد أن يحكمهم: مريضاتى القادمات من أعماق الريف. كادحات، فقيرات، معدمات، بائسات، يائسات، مستسلمات تماما لمصيرهن، كشاة الأضحية.

مستكينات لأقدارهن، كريشة تحملها الرياح.. طعامهن الكفاف، سلاحهن الدعاء، لا يعرفن أصلا بوجود حقوق لهن ليدافعن عنها، ولا يفكرن فى طلبها من الأساس. أيامهن متشابهة، فرحهن قليل، وحزنهن ثقيل، وضحكهن عليل.

ثيابهن مهلهلة، وظيفتها التدفئة، برائحة البؤس والعوز. مخلوقات يصعب أن تهضم فكرة أنها تحيا على نفس الكوكب الذى تسكنه نساء أمريكا وأوروبا، الرائحات الغاديات، الجميلات الأنيقات، المهذبات المنعمات. ولو ولدن فى أوروبا لأصبحن طبيبات أو مهندسات.

أتساءل: هل يعرف السيد جمال مبارك بوجود هؤلاء، أم أنهن مجرد أرقام فى أوراق توضع على مكتبه كل صباح.. رسوم بيانية، مؤشرات اقتصادية، جداول منمقة، وكلام كبير فى السياسة والاقتصاد، والبورصة والمؤشرات، والأزمة العالمية والخطط المستقبلية. عالم خيالى افتراضى، يشبه (ماتريكس)، بينما البشر الحقيقيون يتخبطون من المرض، يرتجفون من البرد، يتضورون من الجوع.

شاهدهن، اعرفهن، اقترب منهن، أمسك أيديهن، استنشق رائحتهن، امسح دموعهن، تأمّل انكسارهن، وإحساسهن بالهوان. فالوجوه التى تحيط بك وتمنعك من رؤيتهن، هذه الوجوه الناعمة، هذه الوجوه اللامعة، المترفة، المكتنزة، ذات النعمة، ليست هى الشعب الحقيقى. مصر الحقيقية هنا، راقدة أمامى، على أسرّة العنابر.

مريضة، قليلة الحيلة، بائسة. تعال شاهدهن قبل أن تتخذ قرارك بالترشح.. فربما تفقد حماستك، أو يتوهج شىء جديد داخلك، شىء لم تكن تعرف بوجوده أصلا، ولم تدر بكمونه فيك. شىء لم نتوقعه نحن، ولا معارضوك، ولا حتى أنت.

المصدر
http://www.almasry-alyoum.com/articl...8&IssueID=1374